يرى أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين أنه: "ليس لأحدٍ من أصناف القائلين غِنىً عن تناول المعاني ممَّنْ تقدَّمهم، والصبّ على قوالب مَنْ سَبَقَهُم
وعرض الجاحظ - قبل أبي هلال- لظاهرة السرقات الأدبية / تداول المعاني، وإن لم يتحدث عنها بنفس المصطلح الذي استخدمه لاحقه، حيث يرى أنه: "لا يُعلم في الأرض شاعرٌ تقدم إلى تشبيهٍ مُصيبٍ تامٌ، وفي معنَىً غريبٍ عجيب، أو في معنَى شريف كريم، أو في بديعٍ مُختَرع، إلا وكلُّ مَنْ جاءَ من الشعراء من بعده أو معه، إن هو لم يعدُ على لفظه فيسرقَ بعضه أو يدعيه بأسْره، فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنَى، ويجعل نفسه شريكًا فيه
فتداول المعاني/السرقة عند الجاحظ يعد من طبيعة الخلق الفني، فضلاً على أنه أمر ملازم بين كل سابق ولاحق، على أنه في نصه السابق يشير إلى حدود التداول ومعالمه، فالتداول لا يعني النقل المباشر بقدر ما يعني الاستيحاء الذي لا يُعاب عند الجاحظ ، ولا عند غيره، فالمعاني العامة واستيحاء الشاعر لها في بنائه الفني الجديد أمر مألوف، ويدخل في عملية الإبداع الفن
ويبدو من النصوص السابقة، مدى ما وصل إليه أسلافنا من النقاد العرب إلى فهم عملية الإبداع الفني في الشعر، وما تشتمل عليه من تلازم وتداخل، بل حوار وتفاعل، بين الإطار الثقافي العام والخاص للشاعر، وبين شخصيته الفنية الفاعلة في ذلك الإطار، فقد أدركوا أن الموروث الثقافي ينتقل إلى الشاعر عبر ألفاظ اللغة، مما يؤدي إلى أن اللفظة التي يوظفها الشاعر في إبداعه الفني تحمل أنفاس السابقين عليه، ولذا فالشاعر يعطي اللغة من عصره وشخصيته وفنه، وهي تعطيه من تاريخها وإرثها الحضاري، وهو ما أكدت عليه النظرية النقدية عند الغربيين في العصر الحديث، من خلال مبحث المصادر أو النص الغائب في التناص
وقد عرض الآمدي في كتابه الموازنة لتداول المعاني بين الشعراء بهذا المفهوم، حيث أشار إلى أن غاية التداول الابتكار في الصورة الفنية, حتى يحقق الاختلاف والتطور بين السابق واللاحق، ولذلك فالسرقة عنده: "إنما هي في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة بين الناس، التي هي جارية في عاداتهم، ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنَّة فيه عن الذي يورده أن يقال: إنه الذي أخذه من غيره
والاشتراك في المعاني العامة يعد أساس التداول عند الآمدي، فيرى أنه "غير منكر لشاعرين مكثرين متناسبين من أهل بلدين متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني، ولاسيما ما تقدم فيه، وتردد في الأشعار ذكره، وجرَى في الطباع والاعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعماله".
وهو بهذا يلفت إلى الأساس الذي يقوم عليه تداول المعاني، الذي يعني الاشتراك في المعاني العامة وشيوعها بين الشعراء، مما يستوجب عدم لوم الشاعر على نقلها عن غيره من السابقين عليه، وقد بيَّن الآمدي الفرق الكبير بين أساس التداول، وهو المعاني العامة المشتركة، وبين غايته، وهي اختصاص الشاعر بمعنى خاص، من خلال صورته الفنية الخاصة التي لا يشاركه فيها غيره، ويبدو هذا بوضوح في رأيه عن السرقات التي خرّجها ابن أبي طاهر: "وجدت ابن أبي طاهر قد خرّج سرقات أبي تمام، فأصَاب في بعضها وأخطأ في البعض؛ لأنه خَلَط الخاصَّ من المعاني بالمشترك بين الناس, مما لا يكون مثله مسروقًا".
فنص الآمدي يوضح تبلور مفهوم المعنى المتداول لديه/ المسروق بالتعبير الشائع، كما يوضح في جلاء تمييزه بين المعنى العام المشترك وبين المعنى الخاص الفني، وأن العام المشترك هو أساس تداول المعاني أو المنطلق الذي يبدأ منه الشاعر ويبني عليه، بينما المعنى الخاص، الذي يختص به شاعر دون غيره هو غاية التداول التي يصبو إليها الشاعر، وهو ما يمثل الخصوصية الفنية, ويوصم من يتعدى عليها بالسرقة.
وتعد الفكرة العامة المشتركة، مجرد أدوات للبناء، وإنما الشأن في مدى إتقان الشاعر لاستخدام هذه الأدوات, وخلق علاقات جديدة في اللغة, سواء على المستوى الدلالي أو الصوتي, مما يحقق المعنى الأدبي التخييلي الخاص.
وعلى ذلك, نستطيع تفسير ما ذكره المرزباني على لسان الأخطل في قوله: "نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة فالأخطل لا يريد بطبيعة الحال المعنى الظاهري لكلمة أسرق، ولكنه يقصد ما نحاول تأصيله من مفهوم تداول المعاني وغايته، وهو إعادة الصياغة وإعادة تركيب الصور الفنية عند الشعراء السابقين, لتكوين الصور الفنية الجديدة عند اللاحقين عليهم.
فالألفاظ المفردة التي تتكون منها اللغة، مخزون جمعي ينتقل من جيل إلى جيل، ولا فضل فيها مفردة لشاعر على شاعر، فهي مباحة بتأثيراتها وما تحمله من فكر وخيال وشعور في مدلولها الاجتماعي والثقافي والحضاري بين الأجيال المختلفة، إذ إنها في انتقالها ميراث جمعي لا تنتقل في قوالب صماء, ولكنها تنتقل بما تحمله أيضًا من ارتباطات وتأثرات، والشاعر يرث ذلك كله ويستحضره، بل يستحضر معه أيضًا ما راوح هذه المفردات من تعبيرات وأمثال واستعمالات متداولة، ولا غضاضة في ذلك، فهي لا تعدو أن تكون أدوات يعدها الشاعر ليصبغها بصبغته, ويلقي عليهـا من شخصيته إيحاءاتٍ وظلالاً تسمها بميسمه الخاص وهو ما يتوافق مع حقيقة تاريخية حاسمة تتمثل في أن قمم الإبداع كلهم متمردون – على اختلاف مناحي هذا التمرد واتجاهاته – فبشّار وأبو نواس وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء تناولوا التراث وأعادوا حرثه من جديد، مما يؤكد أن تداول المعاني يمثل تمردًا على اللغة السابقة، وولادة جديدة للغة لاحقة متجاوزة.
ومصداق ذلك نجده عند القاضي الجرجاني، الذي عرض لقضية تفاعل النصوص في ذهن الشاعر، وتفاعـل المعاني التي تحويها النصوص وتداخلها وتكاملها مع مقدرته الخاصة, وشاعريته التي تتحدى المخزون السابق لديه من المعاني بالتطوير والحركة والابتكار، يقول في مبدأ الإيمان بـتوليد معنى من معنى سابق "السرق - أيدك الله - داءٌ قديم، وعيبٌ عتيق, ومازال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد من قريحته، ويعتمدُ على معناه ولفظه؛ وكان أكثره ظاهرًا كالتوارد الذي صدَّرنا بذكره الكلام... ثم تسبّب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب؛ وتغيير المنهاج"
وبذلك يستطيع الشاعر تجاوز ما هو مألوف متوقع إلى ما هو جديد مبتكر، وهو ما لا يتاح إلا للشعراء المهرة المطبوعين، ممن يستطيعون إبراز المعنى المشترك العام كأنه مخترع مبتكر، وكأنهم في ذلك قد ساروا في وادٍ بكر لم يعهده مَنْ قبلهم، كما ذهب القاضي الجرجاني فالشاعر ينفرد بالمعنى المبتكر بناءً على انفراده في اختيار ألفاظه وترتيبها، وخصوصيته في الزيادة عليها وتهذيبها، مما يجعل له استحقاق معناه والتفرد به عن غيره.
ويوضح القاضي الجرجاني ظاهرة تداول المعاني بين الشعراء محددًا أسسها، ومعرفًا بالمصطلح، يقول: "وقد يتفاضل متنازعو هذه المعاني بحسب مراتبهم من العلم بصَنْعة الشعر، فتشترك الجماعة في الشيء المتداوَل، وينفردُ أحدهم بلفظة تُستعذب، أو ترتيب يُستحسَن، أو تأكيد يُوضع موضعه، أو زيادة اهتدى لها دون غيره؛ فيريك المشترَك المبتذل في صورة المبتدَع المخترع، كما قال لبيد : [من الكامل]
وجَلاَ السُّيُولُ عن الطُّلُولِ كأنَّها
زُبُـرٌ تُجِـدُّ مُتُونَهـا أَقْلامُهـا
فأدَّى إليك المعنى الذي تداولته الشعراء ، قال امرؤ القيس:[من الطويل]
لِمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُه فَشَجاَني
كخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يماني
وقال حاتم: [من الطويل]
أَتَعْرِفُ أَطْلاَلاً ونؤيًا مُهَدَّما
كخطّك في رَقٍّ كِتابًا مُنَمْنَما
وقال الهذلي: [من الطويل]
عرفتُ الدِّيـارَ كـرَسْمِ الكِتـا
بِ يَـزْبُره الكـاتِبُ الْحِمْيَـري
وأمثال ذلك مما لا يُحصى كثرة، ولا يَخْفَى شُهرة، وبين بيت لبيد وبينها ما تراه من الفَضْل، وله عليها ما تشاهد من الزيادة والشِّف"
ويعد النص السابق بمثابة إطار متكامل لتداول المعاني، يجمع في حدوده وصف الظاهرة وتوضيح المفهوم ووضع المصطلح، بما يتفق وما جاء عند أحد النقاد في قوله: "إن تداول المعاني بين الأجيال المختلفة من الشعراء أمر طبيعي، ولكن لا ينبغي أن يقف هذا التداول عند حد التقليد الأعمى والنقل الحرفي لمعاني القدماء وصيغهم، وإنما ينبغي أن يتجاوز ذلك إلى إبراز شخصية المتأخر وفكره وخياله، فيما أخذه عن المتقدم من المعنى أوصيغه"
وبناءً على ذلك، فتصرُّف المحدثين في معاني القدماء، بالإضافة إليها والحذف منها أو إعادة تشكيلها، تعد مسوِّغًا للإبداع الشعري عند المحدثين في رأي القاضي الجرجاني الذي يرى كذلك أن الشاعر المحدث إذا راعى هذه الخطوات التي ذكرها في تعامله مع المعاني، وصياغته لها صياغة جديدة, قد يبرز على القدماء ويبز السابقين عليه بما يأتي من إبداع طريف، وذلك في مثل قول المتنبي: [من الوافر]
وقد صُغْتَ الأسنَّةَ مِنْ هُمومٍ
فَمَـا يَخطُرنَ إِلاَّ في فـؤادِ
في رأي من رأوا أنه مأخوذ من قول أبي تمام: [من الطويل]
يَظَـلُّ فُـؤادًا للفـؤادِ سنانُـهُ
فيرد على مَنْ يرى ذلك قائلاً: "ولا أبعد أن يكون قد لاحظه؛ لكنه قد أبرَّ به على كل مخترع وسابق ومنفرد..."
ومن ذلك المنطلق يرى القاضي الجرجاني أن المحدث قد يتجاوز السابق عليه؛ بما يأتيه في إبداعه من تجديد، فالجديد النسبي المتحقق في الصياغة التعبيرية في شعر المحدثين، قد يفوق عنده اختراع السابقين للمعنى.
كذلك كان لأبي هلال إسهام ملحوظ ومنحى متميز في هذا الأمر، فقد كان التداول من القضايا الأساسية التي ناقشها في الصناعتين، حيث ذهب إلى أن المعاني العامة لا مشاحة في أخذها عن السابقين، والبناء عليها بناءً فنيًّا جديدًا، مثلما صنع النابغة في أخذه بيته المشهور:
[ من الطويل]
بِأنَّكَ شَمْسٌ والملوكُ كَوَاكِبٌ
إِذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
فقد أخذه من بيت أحد الشعراء من قوله: [من الطويل]
هو الشَّمْسُ وافتْ يَومَ دَجْنٍ فَأَفْضَلَتْ
على كُلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كَوَاكِبُ
فقد تداول النابغة معنى الشاعر السابق عليه، مستوحيًا صورته الفنية، ومبدعًا منها صورة أبدع وأشهروقد وضع أبو هلال قانونًا مختصرًا وواضحًا وجامعًا لتداول المعاني في قوله: "قد أطبق المتقدِّمون والمتأخِّرون على تداول المعاني بينهم؛ فليس على أحد فيه عيبٌ، إلا إذا أخذه بلَفْظِه كلِه
لقد بيَّن أبو هلال العسكري أن المعاني مشتركة في العلم بها بين الناس، ولكن تقع المزية والتمايز بينها في الصياغة الفنية، فبقدر تصرُّف الشاعر في الصياغة، وبمدى قدرته على الإضافة والحذف والتحوير وإعادة التنسيق والتوزيع بين الدال والمدلول لإنتاج الدلالة الجديدة في إبداعـه، بقدر مـا يحظى من تأثيـر في المتلقي، ويرى أنه يجب على الشعراء إذا أخذوا المعاني "أن يَكْسُوها ألفاظًا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويُورِدُوها في غير حليتها الأولى، ويزيدوها في حسن تأليفها وجودة تركيبها وكمال حِلْيَتها ومعرضها؛ فإذا فعلوا ذلك فهم أحق بها ممن سَبَقَ إليها، ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين"
والجملة الأخيرة في نص أبي هلال، تذكرنا بنص الجرجاني السابق، فقد اتفق الناقدان على أن المقياس في الجودة الفنية, هو قدرة الشاعر على ابتكار الصورة الجديدة، وليس التقدم أو السبق، "ومعنى هذا أنه يميل إلى رفض القول بالسرقة في المعاني، وإلى أن يحصر ذلك في الصياغة وطرق الأداء التي تخصص المعنى العام بشاعر بعينه، وهو يعود في موضع آخر فيؤكد هذه النظرة بقوله: "والمعنى إنما يحسن بكسوته، أخبرنا بعض أصحابنا قال: قيل للشعبي: إنا إذا سمعنا الحديث منك نسمعه بخلاف ما نسمعه من غيرك، فقال: إني أجده عاريًا فأكسوه من غير أن أزيد فيه حرفًا، أي من غير أن أزيد في معناه شيئًا... كما سُئلَ أبو عمرو بن العلاء عن الشاعرين يتفقان في لفظ واحد ومعنى واحد, فقال: "عقولُ رجالٍ توافتْ على ألسنتها" ويبني العسكري على هذا الرأي نتائج مستقيمة فيقسم الأخذ إلى أخذ حسن، وأخذ قبيح. والأخذ الحسن هو أن تأخذ المعنى فتكسوه بألفاظ من عندك فيصبح ملكًا لك، والأخذ القبيح أن "تعمد إلى المعنى فتتناوله بلفظه كله أو أكثره، أو تخرجه في معرض مستهجن"وإذن فمقياس السرقة عنده هو الصياغة، وهذه فيما نرى أصدق نظرة"
كذلك جعل أبو هلال الشعراء في منازل متفاوتة، تبعًا لتصرفهم في المعاني, وقدراتهم الفنية على تحويرها وإلطافها, يقول: "وسمعتُ ما قيل، إنّ مَنْ أخذ معنىً بلَفْظه كان سارقًا، ومن أخذهببَعض لفظه كان له سالِخًا، ومن أخذه فَكَسَاهُ لَفْظًا من عنده أَجْوَد من لفظه كان هو أوْلى به ممن تقدمه
وما قرره أبو هلال في شأن تداول المعاني بين القدماء والمحدثين, يصدق عليه قول الدكتور محمد مصطفى هدّارة: "ولو أننا قارنّا بين شروط السرقة الممدوحة كما قررها نقاد العرب, وشروط الاحتذاء الفني كما قررها النقاد الأوربيون، فسنجد التطابق بينهما شديدًا، وما ذلك إلا لأن السرقة الممدوحة عند العرب إنما تعني الاحتذاء بمعناه الفني، وهي التي يرضى عنها النقاد العرب الذين لا يتعصبون للقديم"
ومن هنا انصرفت عناية أبي هلال إلى مناحي تداول الشعراء للمعاني، وتشكيلها تشكيلاً صياغيًا جديدًا يكسبها الخصوصية والتميز عند كل منهم، ونلمح ذلك في قوله: "وقد تداول الناس معنى قوله: [النابغة الذبياني]
فإنك كالليـل الـذي هو مـدركي
فقال الفرزدق: [من الطويل]
وَلَو حَمَلتْني الريِّحُ ثم طَلَبْتني
لكنتُ كشيء أدركتْـهُ مَقَـادِرُه
وأخذ الأخطل قول الفرزدق، فقال: [من البسيط]
فأنتَ كالـدَّهرِ مبثوثـًا حَبائلُهُ
وَلَـو ملكتُ عنِانَ الرِّيحِ أصْرِفُهُ
والدَّهـرُ لا مَلجأ منه ولا هَرَبُ
في كلِّ ناحيةٍ ما فاتَكَ الطَّلَبُ
وأخذ مسلم البيت الأول من الأخطل فقال... وهو أيضًا مأخوذ من قول النـابغة... وأخذه أبـو تمام فقـال... وأخذه علىّ بن جبلة فقـال... وقـال البحتري... وقلت في قريب منه..."
وقد أدرك ابن رشيق ذلك الأمر بحسه النقدي الدقيق، ففرق بين المعنى العام الذي يجوز الحوار فيه بين الشعراء، والمعنى الخاص الذي يمثل أسلوبًا مميزًا يبرز في ذلك الحوار، وكان بمثابة مجمع للذاكرة النقدية المعتدلة والبعيدة عن الخصومات والتعصب، ملمًا بآراء السابقين عليه.
ومما نقله عن غيره في المعنى العام والمعنى الخاص، قوله: "ولستَ تُعَدُّ من جَهَابِذَةِ الكَلاَمِ ونُقَّادِ الشعر، حتى تُمَيِّزَ بين أصنافهِ وأقسامهِ... وتفرِّقَ بين المشْتَرَكِ الذي لا يجوزُ ادعاءُ السَّرقِ فيه, والمبتذل الذي ليس واحدٌ أحق به من الآخر، وبين المختص الذي حازه المبتدئُ، فملكه, واحتباه السابق, فاقتطعه... والسرق أيضًا إنما هو في البديع المُخْتَرع الذي يختصُّ به الشاعر، لا في المعاني المشتركةِ التي هي جارية في عاداتهم, ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظَّنَّة فيه عن الذي يوردهُ أن يقال: إنه أخذه من غيره"
وقد تطرق هذا الناقد إلى مضمون تداول المعاني وغايته، في نص يحمل الوضوح والطرافة، حيث يقول: "واتِّكالُ الشاعر على السَّرِقة بَلاَدَةٌ وعجزٌ، وتركهُ كَل معنىً سُبِقَ إليه جَهْلٌ، ولكنَّ المختار له عندي أوسطُ الحالات".